عندي أولاد يا جماعة…حرامٌ عليكم!
في مدينتي القبيحة هذه، لم يعد للأطفال، الكثير منهم، حضنٌ آمن.في مدينتي أيضاً، ما عاد الفقر عيباً أو قضيةً تحتاج إلى التَّحليل والحلول؛ لأنّ الفقر هو صورة الحياة الأكثر صدقاً لمدينة ابتلعتها الحرب والفساد. وما عادت غريبة رؤية رجلٍ ستينيّ يأكل من القمامة.
كان يبكي بطريقةٍ غريبة أشبه بصراخِ مكلومٍ، في الباص مُغلق النَّوافذ في طريقي إلى أكثر منطقةٍ أكرهُها في دمشق “المَزَّة”، كانت تحمِله أمُّه الأربعينيّة، وبطريقةٍ باردة تتعامل مع بكائه.
أيجب على الأمّهات أن يكنَّ هادئات بصورةٍ مفرطة في تعاملهنّ مع ألم أطفالهن حتى يأخذ الهدوء الظاهر على ملامحهنّ هيئة لامبالاة وبرود؟يتأفّف الناس من حولها، والباص يكاد يختنق من الازدحام وسوء التهوية؛ ولأنّ استياء الناس من بكائه كان يضغط على الأم المتّشحة بالسواد، تخيّلتُ أنّها قد تضربهُ! لأصاب عندئذٍ بانفعالٍ غريب، صرتُ بهِ على استعداد للتدّخل في أيّ لحظة.كان صدري يضيق كلّما أصغيتُ إلى صوتهِ الذي راح ينخفض كالأنين ثمّ يعاود الارتفاع كصراخِ مَن يستغيث أو ربّما يعترِض! يقاطع مُراقبتي لهُ صوتُ السَّائق : “آداب، يلي نازل آداب يقرّب ع الباب”، انتهى الأمر… وإلى حين نزولي، لم تضربهُ.
عند النَّفق، كان أحدهم يبيع البسكويت ويصرخ كالأرملةِ المفجوعة: “عندي أولاد يا جماعة، حرامٌ عليكم!”. وبصوت لم أستطع كتمهُ قلت وبما معناه: لا تنجب أولاداً… بكلِّ بساطة. شعرت بأنَّ سيلاً من الشَّتائم والدَّعوات سينهمر عليَّ، فأسرعتُ مُحاولةً تجنّب انفعالٍ آخر لا جدوى منه.
في مدينتي القبيحة هذه، لم يعد للأطفال، الكثير منهم، حضنٌ آمن.في مدينتي أيضاً، ما عاد الفقر عيباً أو قضيةً تحتاج إلى التَّحليل والحلول؛ لأنّ الفقر هو صورة الحياة الأكثر صدقاً لمدينة ابتلعتها الحرب والفساد. وما عادت غريبة رؤية رجلٍ ستينيّ يأكل من القمامة، ويحمد الله! إنّي أكفرُ بآلهةِ الفقر في هذه المدينة، وأسياد حربها.