pexels

   موجز في الفلسفة الأخلاقيَّة

يقول الدكتور عادل العوَّا في كتابه (المذاهب الأخلاقية): “إن البحث الفلسفي في الحياة الأخلاقية والكشف عما تنطوي عليه من آيات الخير وأسس الواجب وضروب الفضيلة من أوثق الأبحاث الجدية ارتباطاً بالفكر البشري”.

علم الأخلاق: هو العلم الذي يبحث فيما يجب أن يكون عليه الإنسان وماذا ينبغي له أن يفعل وعلى أي صورة يكون هذا الفعل وما هي المبادئ التي تحكم سلوكياته وتقررها.

يقول الدكتور عادل العوَّا في كتابه (المذاهب الأخلاقية): “إن البحث الفلسفي في الحياة الأخلاقية والكشف عما تنطوي عليه من آيات الخير وأسس الواجب وضروب الفضيلة من أوثق الأبحاث الجدية ارتباطاً بالفكر البشري”.

وهذا يعني بدوره أنَّ علم الأخلاق يبحث في ثلاثة أجزاء أساسية للفعل:

• الغاية والمقصد من هذا الفعل والباعث إليه؛ أي: السبب الكامن وراءه

• الفعل بحد ذاته، الذي صار واقعاً

• النتيجة النهائية للفعل التي قد توافق السبب الأول الفعل أو يحكمها سبب طارئ آخر يغيّر مساره

وتنبثق فلسفة الأخلاق من أسئلة تراود الناس عامَّةً والحكماء والفلاسفة والقضاة خاصةً؛ هذه الأسئلة هي كالآتي:

• ما المقصود بــ: الخير، والشر؟

• كيف نحكم على فعل ما بأنَّه جيد، سيئ؟ صالح، غير صالح؟ نافع، ضار؟

• ماذا تعني المفاهيم الأخلاقية؟

• هل أحكامنا الأخلاقيَّة صحيحة أم زائفة؟

• هل يمكن تسويغ أفعال معينة بأحكام أخلاقية؟

• ما هي التوجهات الفلسفية التي يجب أن أتنباها؟ وما الذي يدفعني إلى اختيار مبدأ أخلاقي ما دون سواه؟

أصل كلمة أخلاق:

• يذكر عالم النفس إيرك فروم في كتابه (الوضع البشري المعاصر) لمحة مختصرة عن أًصل هذه الكلمة بأن كلمة الأخلاق “Ethics” تعود إلى كلمة تعني في الأساس: عُرف. التي عنت في النهاية: العلم الذي يتعامل مع مُثُل ومبادئ العلاقات الإنسانيَّة ولا يزال هذه الارتباط بين كلمتي “عرف” و “مُثل” موجوداً في عقول الكثيرين.

• من جهته يعرف مارك زيجلر “العُرف”:  أنّه مجموعة من الأعمال المحدودة التي تواضع عليها الناس اعتباطاً ونمت في أوساط  خاصة ولا سيّما في المجتمعات الطبيعية والجنسية كالعشيرة والقبيلة ثم صار يعد انتهاكها تعدياً على الآداب واتباعها فضيلة.

• أمَّا ما ورد  في كتاب (أصول الأخلاق)، لمؤلفه ي. دني: فإن علم الأخلاق هو علم السلوك بل علم المُثُل الأعلى من السلوك والتي تحكم السلوك البشري وتوجهه.

• الخُلُق لغةً هو العادة والاعتياد والسجية والطبع.

مقياس الحكم الأخلاقي: 

عندما نريد الحكم على فعل ما بأنَّه أخلاقي فيجب الأخذ بعين الاعتبار شرطين مهمين: 

• أن يكون الخير من هذا الفعل هو الغاية القصوى والنهائية له، لا أن يكون ادعاء الخير أو تحقيقه وسيلة لغايات أخرى وهذا ما يسمى “الخير الأسمى”

• المحاكمات الأخلاقية تكون للأفعال الاختياريَّة ويقصد بها كل فعل مرسوم مقصود، فلا يدخل في الحكم الأخلاقيّ الأفعال التي لا يصحبها جهد الإرادة*، وبالتالي يمكننا محاكمة فقط الأفعال التي تندرج تحت: 

• الأفعال التي يغلب تكرارها فتصبح عادة

• حاصل العادات الذي يشكل السلوك الإنساني

• ميول الإنسان العاقل التي يعيها ويعترف بها

الإرادة:

هي خضوع الفعل للاختيار العقلي وقدرة العقل على توضيح سبب ودافع الاختيار والآراء والإحساسات، وهي جهد موجَّه إلى غرض محدود، أو هي قوة تظهر في الإصرار الذاتي والتكيف الذاتي.

وتنطوي الإرادة على الشعور والإدراك فهي تشمل الأفعال التي ينتجها الشعور كما أنها تشمل الأفعال التي ينتجها الإدراك والمعرفة. وعلى ذلك تكون الإرادة مبنية على الآتي:

• الشعور: إما باللذة أو بالألم

• الرغبة في الانتقال من حال إلى حال آخر 

• التدبر والتفكير في كل فعل أو تركه

• العزم على فعل ما والقيام به حقاً؛ أي أن يصير واقعاً نتيجة الإصرار عليه

علاقة الإرادة بالأخلاق: 

كما وضحنا سابقاً، فإن الحكم الأخلاقي ينطبق على الأفعال الاختيارية ذات الدافع الواضح، التي تحكمها الإرادة بصورة أساسية، وإن تطوّر الإرادة يكون وفق ثلاث مراحل: 

• مرحلة الفعل غير الاختياري أو الغريزي في الطفل

• مرحلة الاختيار دون تدبّر: الذي يكون وفقاً للإرادة دون ضبط هذه الإرادة أو محاكمتها للفعل 

• مرحلة الاختيار بتدبّر: الفعل وفقاً للإرادة مع معرفة دوافع الفعل وضبط هذه الإرادة التي كانت وراء الفعل

وعلى ذلك نقول إنَّ المحاكمة الأخلاقية تكون للأفعال الواقعة في المرحلة الثالثة من مراحل تطوّر الإرادة؛ أي: الأفعال الخاضعة للإرادة، التي تكون بنيّة مُدرَكة ودافع مقصود واختيار.

المذاهب الأخلاقيَّة: 

هناك ثلاثة مذاهب أخلاقية أساسيَّة تفرَّعت عنها الآراء ووجهات النظر الفلسفيَّة الأخلاقيَّة المختلفة، وهذه المذاهب هي:

• المذهب الافتطاري “المستقل”: القائل بأن الفعل أخلاقي يطابق قاعدة مفروضة واجبة بغض النظر عن عاقبة الفعل ونتيجته.

• المذهب اللذي “الهدوني”: الذي يحكم على الفعل بأنه أخلاقي إذا ما أدى إلى اللذة أو السعادة ونجم عنه تجنّبٌ للكدر، وهو على شكلين:

• اللذي الذاتي: والهدف منه تحقيق لذة الذات والمنفعة الشخصية

• اللذي العام: الذي يقصد منه تحقيق المنفعة العامة، أو منفعة المجتمع والإنسانيَّة

ملحوظة: كلمة هدون هي كلمة يونانية تعني “اللذة”.

• النشوئي أو الكمالي: يرى أن أيّ فعل يحمل فضيلة أدبية أخلاقية في نهايته يرمي إلى مثال أعلى “الكمال” وبالتالي إذا أراد الإنسان أن يبلغ مرحلة القبول الأخلاقي والرضا والارتياح فعليه أن يكمِّل نفسه ويصل بها إلى مرحلة الكمال الإنساني التي هي غاية في حدّ ذاتها.

• لمحة موجزة عن كل مذهب من المذاهب السابقة والاعتراضات عليها:

الافتطاري: يعتمد هذا المذهب في إطلاقه الأحكام الأخلاقية على الأفعال على الضمير أو الفطرة الذي يحكم على صحة الفعل وصلاحيته الأخلاقية دون الحاجة إلى الخبرة أو التعليم أو التربية أو ما هو مكتسب؛ فالضمير والشعور الأدبي غريزيان في الإنسان كما هو شأن الحواس من بصر وسمع و…الخ. وهذا بدوره يسوِّغ عدم اكتمال نمو الضمير أو عدم سلامته لدى بعض الناس كما أن لدى بعضهم حواساً غير مكتملة أو غير سليمة.

ملحوظة: لقد كان إيمانويل كانط من أتباع هذا المذهب في فلسفته الأخلاقية وسيرد شرح مختصر لذلك لاحقاً.

اللذي: وهو مذهب غير مستقل فهو قائم على الغرض الذي نرمي إليه من الفعل؛ إذ يرى المذهب اللذي أنَّ اللذة هي الخير الأسمى وهي الهدف الأخير أو الأقصى المرجو من كل فعل إنساني.

• اللذي الذاتي: يرمي إلى تحقيق السعادة الذاتية، بمعنى تحقيق سعادة الشخص نفسه وما يحقق له الارتياح بمعزل عن بقية الناس أو المجتمع. ولأنَّ هذا المذهب يخالف تعاليم بعض الأشخاص المؤيدين لفكرة التنازل عن اللذة، ولأنّه يحمل طابعاً أنانيَّاً، فقد وردت بعض الاعتراضات عليه، نذكر منها: 

• لا يمكن أن تقترن الفضيلة باللذة الناجمة عن تحقيق مصلحة شخصية، ولا تكون الفضيلة دون النظر إلى مصلحة الآخرين وأخذ سعادتهم بعين الاعتبار.

• يترتب على اتّباع هذا المذهب تخطئة كل من يتنازل عن مصلحته الشخصية أو سعادته في سبيل سعادة غيره والمصلحة العامَّة (يصبح التفكير في سعادة الآخرين خطأً).

• اللذي العام: يقرر هذا المذهب أنَّ الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يحقق اللذة والسعادة لأكبر عدد من بني البشر، وبالتالي يجب أن يصبَّ تحقيق المنفعة الذاتية أو اللذة الذاتية في النهاية في منفعة الناس جميعاً واللذة العامة.

ملحوظة: كان من أتباع هذا المذهب، الفيلسوف جون لوك، وهوبز، وأتباع الديانات السماوية عموماً، ومن الفلاسفة اليونانيين نذكر: أرسطوطاليس وأبيقور وتلاميذه.

الكمالي أو النشوئي: يرمي إلى الصعود بالنفس إلى أعلى مراتب الإنسانية وعليه يكون القانون الأدبي والفضيلة الأدبية هما نسق من النماء المطّرد؛ فإذا أراد الإنسان أن يبلغ أعلى درجات السعادة والأخلاق وجب عليه الوصول إلى مرحلة الكمال والتسامي.

الفلسفات الأخلاقيَّة بدءاً من اليونان إلى الفلسفة الحديثة:

الفلاسفة اليونان: 

بدأت الفلسفة الأخلاقية عند اليونان بفهم فكرة أنَّ الإنسان يسعى دائماً إلى خير عظيم ويجدُّ للوصول إليه، وهذا الخير هو غاية بذاته “الخير الأسمى” ويستلزم الوصول إليه العمل وضبط النفس والتفكير السليم.

ونذكر من فلاسفة اليونان سقراط الذي وجَّه فكر اليونان إلى البحث في الإنسان بدلاً من العالم المادي أو الخارجي، ومع أنَّه كان من أوائل الدعاة إلى دراسة الفكر والطبيعة الإنسانية إلا أنَّ المبادئ والأحكام الأخلاقية كانت منثورة في قصائد الشعراء على هيئة حكم وأمثال وأبيات شعرية وهذا ما عبَّر عنه بول جانيه بقوله: “إنَّ الشعراء كانوا أول لاهوتي عند اليونان، كما كانوا أول واعظ”. وقد قال سقراط إنَّ السعادة العظيمة للإنسان تتحقق بالمعرفة؛ فالمعرفة في نظره فضيلة وهي الغاية السامية القصوى، وكان يرى أنَّ الإنسان إذا ما عرف الحق فلن يحيد عنه، وأنَّ ارتكاب الباطل أو الرذيلة ينجم عن عدم المعرفة أو الجهل.

وقد وجد أفلاطون أنَّ الخير والفضيلة هما معنيان إلهيَّان، ويكون تحقيق الخير وتطبيق الأخلاق بتمثُّل أربع فضائل وممارستها في كل فعل: الشجاعة والعفة والحكمة والعدل، وهذا التمثل يكون بالتربية والممارسة وضبط السلوك.

أمَّا أرسطو طاليس فقد وجد أنَّ الإنسان يجمع بين الشعور والرغبة والعقل، ومن خلال إدراكه الناجم عن التفكير العقلاني يكون شبيهاً بالله، بينما يشترك مع الحيوان في الشعور والغريزة البدائية، وباتحاد الرغبة والعقل وتوازنهما يتسم الإنسان بالأخلاق.

أبيقور وتلاميذه: كان أبيقور من أتباع المذهب اللذي، فقد وجد أن اللذة تحقق الخير للإنسان والعقل يساعده حتماً على تحصيل هذه اللذة، وكانوا يقصدون باللذة: اللذة المستمرة الكبرى لا اللذة المؤقتة، فالمسرات المستمرة الباقية التي يقررها العقل تضمن للإنسان الارتياح والسكينة وتجنب الكدر ومحاربة الألم، على عكس المسرات الآنية الزائلة التي تفرضها الشهوات العابرة وتكون منافية لما يقره العقل. 

الأديان السماوية والأخلاق:

إنَّ الأخلاق في الديانات السماوية الثلاث قائمة بصورة أساسيَّة على خمسة أسس “نظرية الأمر الإلهي”:

• تشريع القوانين والقواعد الأخلاقية يكون من الله وحده

• الفعل الأخلاقي (الخير/الصواب) وإرضاء الله لا ينفصلان

• طاعة الله وما فرضه وسنَّه من تشريعات وطاعات فرضها على البشر هي بذاتها أفعال أخلاقية أو ملازمة لها أو تؤدي إليها.

• ليس الفعل أخلاقي لأن الله أمر به، بل إنَّ الله أمر بهذا الفعل لأنه فعل أخلاقي.

• حب الله وحب الإنسانيَّة وقصد ذلك في كل فعل

إن الأخلاق في اليهودية ذات منشأ ومصدر إلهي، مكتوبة ومقررة في التوراة، وقد جاءت المسيحية من بعدها لتعمم تعاليم اليهودية التي بدأت في التوراة وفقاً لمبدأ “إذا أردت طاعة الله فيجب عليك أن تطيع الوصايا العشر”، وكما وصفها نيتشه فإنَّ المسيحيّة: “مقومة للأشياء من جديد” بعد اليهودية.

وعلى العموم، فقد قصدت الديانات السماوية من إقرار القوانين والقواعد الأخلاقية وردّها إلى الله في نشوئها: تطهير النفس البشرية فكراً وعملاً وقولاً، وإنكار الشهوات الزائلة ونبذ الحياة المادية، ما أدى بدوره إلى ظهور فلسفات وتوجهات من الزهد والتنسك مثل: التصوف والرهبانية وغيرها. والتي كانت شكلاً متطرفاً من تمثّل الأخلاق الدينية.

وبالرجوع إلى المذاهب الأخلاقية التي وضحناها سابقاً، يكون المتدينون بدين سماوي لذيين “أتباع المذهب اللذي” إذا ما كان هدفهم من الفعل الأخلاقي الذي يقومون به هو الوصول إلى الجنة، وتحصيل الملذات في الآخرة.

الأخلاق في الفلسفة الحديثة:

إنَّ مردّ الأفكار الأخلاقية الحديثة إلى مارتن لوثر، الراهب الذي امتاز بميله إلى الواقع بعيداً إلى الخيال، وقد أقرَّت الأخلاق الحديثة أن غاية أي فعل هي استثمار ملكات الإنسان وقواه الكامنة في الحياة العملية في هذا العالم وبذلك يتحقق الخير ويكون الفعل أخلاقياً.

تفرعت عن الفلسفة الحديثة عدَّة تيارات منها التيار الإنجليزي (هيوم وآدم سميث ولوك وهوبز وسبنسر)، والتيار الألماني (اسبينوزا وليبنتز).

وسنلقي نظرة سريعة على أفكار بعض هؤلاء الفلاسفة حول الأخلاق والفعل الأخلاقي:

جون لوك:

فيلسوف إنكليزي، من رواد الفلسفة التجريبيَّة (1632- 1704)

 كان لوك من أتباع المذهب اللذي، فقد وجد أنَّ مردّ الأفعال الأخلاقيَّة إلى اللذة الناجمة عنها، وأنَّ الشعور بالكدر والألم هو ما يدفعنا إلى تجنب فعل ما أو حتى الحكم عليه بأنَّه غير أخلاقي.

إيمانويل كانط:

فيلسوف ألماني (1724- 1804)، من أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية.

رأى كانط أن العقل هو مصدر الأخلاق في الإنسان، ولسنا في حاجة إلى التربية أو اكتساب الخبرة أو حتى معرفة العادات والقيم الاجتماعية حتى نكون أخلاقيين؛ لأنَّ عقلنا كفيل بتوجيه أفعالنا لتكون أخلاقية وهذا ما دعاه بمبدأ “الآمر المطلق”، فالإنسان يجب عليه أن يفعل ما يحب أن يفعله الناس من أجله، وأنَّه إذا ما تمثَّل كل منا هذا المبدأ وصلنا إلى تحويله إلى قانون عام يحكم الأفعال البشرية، عندما يفعل كل منا ما يحبّ أن يصير فعلاً عامّاً يفعله الجميع. وقد جاء دليله على أنّ العقل كافٍ لتقويم الفعل من فكرة أن المبدأ السابق يحمل في ذاته سلطاناً إذا ما تقيَّد به الجميع وفهموه.

هربرت سبنسر:

فيلسوف بريطاني (1820-1903)

 كان من أهم روَّاد الفلسفة الوضعية، وممثل تيار “فلسفة الأخلاق التطوريَّة”، وقد قامت جلّ فلسفة سبنسر على فكرة “البقاء للأفضل/ للأصلح” الظاهرة بوضوح في وصفه العمل العقلي بأنَّه ليس إلا استجابة غريزيّة استمرت وبقيت (لأنها صالحة) بعد صراع نشأ بينها وبين استجابات غريزية أُخرى. وأن الصور الفكرية ما هي إلا عادات عقلية تطوّرت مع الزمن, فبقي الصالح منها وتحوّل إلى جزء من الموروث العقلي الإنساني واندثر ما لا يصلح. وفي الأخلاق نادى سبنسر بضرورة تأسيس القيم الأخلاقية وفق القوانين البيولوجية من خلال خضوع هذه القيم لمبدأ الانتخاب؛ فكل قيمة أخلاقية تسقط في اختبار: النزاع للبقاء , وتفشل أمام الانتخاب هي قيمة زائلة؛ وقد سوَّغ ذلك بقوله إنَّ القانون الأخلاقي يجب أن يساعد على إكمال الحياة واستمرارها بل وتطورها أيضاً, وذلك من خلال مقياس “اختيار الأفضل”، ومن وجهة نظر سبنسر: اللذة لها دلالة إيجابية والألم له دلالة سلبية وهذا ما يحكم معظم الأفعال. ونجد مما سبق أنَّ فلسفة سبنسر القائمة على اختيار الأفضل والقابل للبقاء والمحقق للذة والسعادة؛ إنّما هي في جوهرها فلسفة نفعية يمثّلها المذهب اللذي في الأخلاق. وكان لسبنسر الأسبقية في نشوء المذهب التطوري على صعيدي الأخلاق والحياة الاجتماعيَّة، وهو من جاء بفكرة “البقاء للأصلح/الأكثر تكيفاً”، قبل دارون على اختلاف مجاليهما.

وبعد عرض موجز لعلم الأخلاق والفلسفات الأخلاقية وبعض التيارات التي ناقشت الأفعال والسلوك الإنساني من وجهة نظر الغاية والحكم الأخلاقي، سأستعرض فكرة لاقت رواجاً كبيراً في الفترة الأخيرة مع انتشار التوجهات اليسارية وادِّعاء الأفكار الليبرالية دون معرفة فحواها أو حتى مناقشتها منطقياً؛ وهي فكرة النسبية الأخلاقية.

تعني النسبية بصورة عامة عدم القدرة على الحكم على ظاهرة ما إلا من خلال النظر إليها مشروطة بما يحيط بها في زمانها ومكانها ومن أدى إلى ظهورها أو لاحظها أو اعتنقها.

تبالغ النسبية في تحجيم قدرات العقل البشري وتحرمه حقه في الحكم على الأمور من خلال المنطق والتحليل والمناقشة.

أما النسبية الأخلاقية فهي نظرية أخلاقية تقول بأن لكل مجتمع ولكل ثقافة أحكاماً وقيماً أخلاقية خاصة مختلفة عن غيرها, كما أنَّ لكل إنسان قيمه الأخلاقية الشخصية؛ وبالتالي لا يحق الحكم عليه فيما يتعلَّق بأفكاره وسلوكه وأفعاله بأنها أخلاقية أو غير أخلاقية. 

وسنذكر الممهدات الأساسية التي أدت إلى ظهور النسبية الأخلاقية:

• الأخلاق مسألة شخصية: تعامل الأخلاق معاملة الذوق فكما أنَّ لامعنى للنقاش في الذوق على اعتبار أنه مسألة شخصية لامعنى لمناقشة الأخلاق على اعتبار أنها مسألة شخصية أيضاً.

• افعل ما تشاء طالما أنك لا تؤذي الآخر: مبدأ جذَّاب ظاهرياً لأنه يحمل طابعا ليبرالياً متسامحاً يعطي للأفراد حريتهم في الفعل ولو كان هذا الفعل يحمل في جوهره مضمون غير أخلاقي وذلك تحت مسمى “حرية الفعل”.

• الانفعالية: وهي تنظر إلى الأخلاق على أنها مماثلة للمشاعر فكما أن المشاعر شخصية تختلف من شخص لآخر ولا يمكن الحكم بصحة هذه المشاعر فالمبادئ الأخلاقية أيضاً تختلف من شخص إلى آخر لذا لا يمكن أن تكون “صحيحة” أو “خاطئة” وهذا ما يدعى بالنزعة الانفعالية التي تُعبّر عن أننا عندما نتخذ حكماً أخلاقياً على فعل ما فإنما نعبّر عن انفعالاتنا (مشاعرنا) نحوه فقط.

ويدعي أصحاب النظرية النسبية الأخلاقية أنَّ التنوع الثقافي هو الذي يحتّم وجود هذه النسبية كوسيلة للتعايش بسلام وقبول الآخرين وهنا يكمن التناقض؛ فإنَّ انعدام القيم الأخلاقية الإنسانية العامة والمتواضع عليها والمفروضة على الجميع يعني انعدام القوانين والدساتير المُلزِمة وبالتالي العودة إلى حياة الغابة بشكلها البدائي وشيوع الفساد والجريمة واللا أخلاقية، وهذا من الاعتراضات الناسفة لها؛ فإذا اعتقدنا أن كل دستور أخلاقي هو صحيح بالنسبة إلى معتنقيه لن تكون لدينا دساتير أخلاقية عامة، ولن نستطيع عندها أن نُبَشر بالتسامح العالمي بشكل متّسق لأن ما هو صحيح في ثقافة فرد ما قد يكون خاطئاً في ثقافة فرد آخر: (مذابح د/عش بحق الأبرياء قد يكون لها مسوغات مقنعة بالنسبة إلى أفراد د/عش يعتبرونها مسوغات أخلاقية واجبة!). فدعاة النسبية الأخلاقية لا يمكنهم إجبار المجرم على احترامهم واحترام الحياة الإنسانية المشتركة؛ أي ليس بإمكانهم جعله يتخلى عن حياة الجريمة ليقبل بالسلام لأن له أفكاره الخاصة التي يجب على النسبيين – لاعتناقهم النسبية- احترامها فهم لا يملكون حكماً أخلاقياً عاماً يوجهونه ضده (لأنَّه ليس في النسبية أحكام أو دساتير أخلاقية عامة)، وبذلك نجد ما بين السطور ظهوراً لفكرة اللاأخلاقية التي سينتج عنها اللا سلام.

أخيراً, إن انعدام المعيار الذي يتم من خلاله الحكم على الصواب والخطأ والتمييز بين المفروض والمرفوض بالاعتماد على تحليل الأمور وتفنيدها وتصنيفها سيؤدي حتماً إلى الفوضى والخلط الأعمى وتشتت المفاهيم؛ وهذا ما سيؤدي بدوره إلى انعدام أو تباطؤ التطوُّر في مجال الفلسفة الأخلاقية من جهة، ونسف كل القوانين المدنية والجزائية دون الحاجة إليها من جهة ثانية.

من وجهة نظر شخصية, أميل إلى تأييد محاكمة الأفعال الإنسانية وفقاً لسياق فعلها وشروطه دون إهمال غاية الفعل ودافعه ومردّه, بغض النظر عن النتيجة لأنَّ النتائج يحكمها السياق وبمحاكمة السياق أصل إلى الحكم الأخلاقي على الفعل سواءً أكان فعلاً أقترفه أنا أم يُقتَرفُ بحقي.

ومن ناحية التوجهات الأخلاقية، أجد فلسفة سبنسر الأخلاقية التطورية ونظريته الاجتماعية العضوية هي الأقرب إلى الواقع والأفضل لضمان تطور الأحكام الأخلاقية وبالتالي سن القوانين والتشريعات بناءً على ما يفرضه هذا التطور. فكل فكرة أخلاقية تُسهم في تطور الحياة الإنسانية تدوم وإن كانت غير ذلك فلابدَّ من أن يكون مصيرها الفناء.

وأني أوافق ما قاله عالم النفس إيريك فروم في كتابه (الحب أصل الحياة) عن أنَّ اللذَة خير بذاتها والألم شر بذاته وهذا ما قاله من قبله الفيلسوف اسبينوزا. كما تبنَّى  الفارابي المبدأ نفسه في كتابه (السياسة المدنية) عندما قال: “السعادة هي الخير الأسمى، وكل ما ينفع في بلوغ السعادة هو خير أيضاً؛ لا لأجل ذاته، لكن لأجل نفعه في تحقيق السعادة”. شرط أن تكون هذه اللذّة ناجمة عن تحقيق فضيلة يقرُّها العقل والمنطق السليم بعيداً عن الأنانيّة بصورتها القبيحة، واللحاق بالمسرَّات الآنية.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد