هربرت سبنسر ونظرية التطور الاجتماعية!.

قد قال الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائيف في كتابه (العزلة والمجتمع) عن الفلسفة الوضعيّة : “هذه الفلسفة العلمية هي مقدمّة لمرحلة علميّة خالصة في تطوّر الروح الإنساني”.
ويعد هربرت سبنسر من أهم ممثلي الفلسفة الوضعيّة وروادها.


ظهرت الفلسفة الوضعيّة كتيّار من المثالية الذاتية في القرنين التاسع عشر والعشرين على يد الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت الذي قال إنّ العلم يقتصر على وصف المظهر الخارجي للظواهر. تقوم الفلسفة الوضعيّة على التّجربة الحسيّة والدراسات المنطقيّة والعمليّات الرياضيّة وتحليل البيانات وفهم خصائص الأشياء بملاحظتها من خلال التجارب والأبحاث التجريبيّة؛ فقد نشأت هذه الفلسفة كنقيض لعلوم اللّاهوت والميتافيزيقيا، كما يحاول المذهب الوضعيّ الوصول إلى منهج يتجاوز التناقضات القائمة بين الماديّة بوصفها اتجاهاً فلسفيّاً علميّاً يقول أن المادّة أوليّة والعقل ثانويّ،
والمثاليّة بوصفها نقيض الماديّة وهي تعني باليونانية: “الصورة”، وتقول إنّ اللامادّي أوليّ بينما المادّي ثانويّ من خلال المنطق العلمي .
وقد قال الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائيف في كتابه (العزلة والمجتمع) عن الفلسفة الوضعيّة : “هذه الفلسفة العلمية هي مقدمّة لمرحلة علميّة خالصة في تطوّر الروح الإنساني”.
ويعد هربرت سبنسر من أهم ممثلي الفلسفة الوضعيّة وروادها.

وهو عالم اجتماع وفيلسوف ومهندس إنجليزي نشأ في جو أسري لاديني فقد اشتدّت نزعة الإلحاد في أبيه وكان هو على نفس مسار أبيه رافضاً المقولات والموروثات التي تفسر الحياة والظواهر العامة من خلال المعجزات والخوارق والأمور اللا تجريبية .
وقد بقي سبنسر حتى الأربعين من عمره دون تعليم مدرسي منتظم نظراً لكسله وإهمال والده، وفي هذا يقول كوليير، وهو سكرتير سبنسر: “إنّه لم يقرأ كتاباً واحداً في العلوم إلى آخره وحتى سن الثلاثين لم تكن لديه فكرة إطلاقاً عن الفلسفة” .ومع هذا فقد كان سبنسر أعظم فيلسوف بريطاني في القرن التاسع عشر  .

إذن، كيف استطاع تأسيس فلسفته الخاصّة؟
لقد استمدّ أفكاره وخبرته من الملاحظة وشدّة الانتباه الذي كان يتميز به، فإذا وضع في رأسه فكرة ما بدأ عقله يجذب كل ما يتعلّق بهذه الفكرة وملاحظته مباشرة وقد كان محبّاً للاستكشاف فضولياً، إلا أنه كان متشبثاً بآرائه متعصبّاً لأفكاره نوعاً ما .
 سبنسر أول من قال بمصطلح: “البقاء للأصلح” وهو مؤسس نظرية التطوّر الاجتماعية، يقول سبنسر: “التطوّر تجمّعٌ لأجزاء المادة يلازمه تشتيت وتبديد للحركة، تنتقل المادة من خلاله من حالة التجانس المنقطع غير المحدود إلى حالة التباين المتلاصق المحدود”؛ أي إنّ المادة تتجمّع لتكوين الكل المتماسك بدءاً من البسيط إلى المركّب، ومثال على ذلك: تجمع المادة لتكوين السديم الذي لا شكل له مع أنَّه يُنتِجُ نظام الكواكب الإهليجي البيضاوي؛ وهذا يوضّح لنا ما يقوم بين أجزاء المادة من تعاون وتبادلات مشتركة واندماجات وتحديد للأشكال والمظاهر مما يؤدي إلى إنتاج عناصر جديدة مختلفة عن المادة الأولى ومشتقة منها .
أوضح سبنسر الآليات التي تبني فيها الطبيعة هذا الكون المتطور من حولنا، وفق الآتي:

انتقال المتجانس إلى اللا متجانس بخضوعه لتأثيرات داخلية وقوى خارجية

تنوّع واختلاف النتائج: السبب الواحد يؤدي إلى عدة أسباب والنتيجة الواحدة يتفرع عنها عدّة نتائج، وهذا ينطبق على بقية الأمور

التخلي والتفريق: يقوم الكل الواحد بفصل بعض أجزائه وطردها إلى بيئات أو ظروف مختلفة تؤدي بدورها إلى تكوين ما هو مختلف
وتتضح فكرة “البقاء للأصلح” في فلسفة سبنسر في قوله إنّ العمل العقلي ما هو إلا استجابة غريزيّة استمرت وبقيت لأنها صالحة بعد صراع نشأ بينها وبين استجابات غريزية أُخرى، وإن الصور الفكرية ماهي إلا عادات عقلية تطوّرت مع الزمن فبقي الصالح منها وتحوّل إلى جزء من الموروث العقلي الإنساني واندثر ما لا يصلح .
أمّا في الأخلاق فقد نادى سبنسر بضرورة تأسيس القيم الأخلاقية وفق القوانين البيولوجية من خلال خضوع هذه القيم للتطور والانتخاب الطبيعي؛ فكل قيمة أخلاقية تسقط في اختبار “النزاع للبقاء” وتفشل أمام الانتخاب الطبيعي هي قيمة زائلة؛ لأن القانون الأخلاقي يجب أن يساعد على إكمال الحياة واستمرارها بل وتطورها أيضاً من خلال مقياس اللذة والألم من وجهة نظر سبنسر “فاللذة لها دلالة إيجابية والألم له دلالة سلبية”.

سبنسر والنظرية العضوية في المجتمع:

  • ماهي إلا تتابع لأفكار سبنسر التطوريّة المندرجة تحت عنوان: “الانتخاب الطبيعي ” التي كان يهدف منها إلى تطبيق نظرية التطوّر في جميع ميادين الحياة وتسيير المجتمع الانساني وفقها؛ إذ يعتقد سبنسر أن المجتمع كائن عضوي له أعضاء تغذية وله دورة دموية وتتعاون فيه أجزاؤه لتقوم بكل العمليات اللازمة من تناسل وإفراد وإنتاج وتفريغ وغيرها.

سبنسر وأفكاره المتطرفة:

  • رأيه بأن العقل الإنساني عظيم وتافه في الوقت ذاته؛ حيث إن العلم والجهود الإنسانية العظيمة في البحث والتحليل ستواجه في نهاية الطاف حقائق لا يمكن معرفتها؛ فالوجود الكلّي بدأ من مجهول غير مُدرَك وسينتهي إلى مجهول غير مُدرَك.
  • فكرته القائلة بعدم استقرار المادة المتجانسة ووصولها إلى حالة التنافر، وقد وجه ذلك له عدّة انتقادات؛ فهو يرى أن الكل المكوّن من أجزاء متشابهة أكثر تغيّراً من الكل ذي الأجزاء المتنافرة؛ وهذا ما ينفيه علم الأجناس والعلوم السياسية التي توضح أن التنافر يؤدّي إلى عدم الاستقرار ويعطي تحولات وليس العكس.
  •  افتراضه بأن الأسبق زمنياً يكون أقلّ تعقيداً وهذا يناقض ما هي عليه البرتوبلازما (المادة الزلالية الحيوية الأولية التي تنتج منها الخلايا) من تعقيد في التركيب.
  • اعترافه بأنه بالغ في التفكير في كل ما هو مجرّد وأنه لا يجيد الملاحظة الإنسانية المجسدة. فقد سار سبنسر على درب العلماء المعروف بدءاً من الملاحظة وتكوين الفروض والتفكير المنظم، إلا أنه كان يتشبّث فقط بما يؤيّد أفكاره ويدعم وجهات نظره دون الالتفات إلى ما هو عكس ذلك .
    والجدير بالذكر أن سبنسر اعتمد على نظريات لامارك، وقد سبق تشارلز دارون بسبعة أعوام؛ فنشر مقاله عن نظرية التطور العضوية عام 1852 , في حين نشر العالم دارون كتابه الشهير أصل الأنواع في عام 1859؛ أي عندما كان سبنسر في الأربعين من عمره .
    وكما كل الفلاسفة الذين انغمسوا في عمق الفلسفة والبحث والتفكير، كان سبنسر بائساً  فاقداً للمرح والمتعة مما جعل قطار الحياة يمر من أمامه دون أن يشعر بقيمة اللحظات وجماليتها فكان ينظر للحياة على أنها “تافهة حقيرة”.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد