الشرق الأوسط… وجوهٌ في العاصفة

في الشرق الأوسط، لا أحد يعيش حياته كاملة.
كلّنا نصف بشرٍ، ونصف خبرٍ عاجل، ننتظر النصف الآخر على شاشاتٍ تلمع كالمشارط.
هنا يُولَد الأطفال على أصوات الانفجارات، ويكبرون على رائحة الغاز المسيل للدموع، ويحلمون، في أحسن الأحوال، بمدرسةٍ لا تُقصف قبل العاشرة صباحًا.
في بلادنا، الذاكرة مثقوبة مثل سقف بيتٍ طينيٍّ في الشتاء.
نحاول أن ننسى، فلا نقدر، ونحاول أن نتذكّر، فننزف.
كلُّ مدينةٍ هنا تحمل جرحها كوسامٍ، وكلُّ شارعٍ ينام على جثةٍ قديمةٍ أو وعدٍ مؤجل.
اللاجئون يقطعون البحار بأحلامٍ من ورق.
النساء يخبزن الصبرَ على نيرانٍ من الانتظار، والرجال يزرعون أبناءهم في المنافي كحبات القمح، علّ أحدهم ينجو في موسمٍ القادم.
حتى العصافير غادرت هذه السماء، فقد سئمت أن تُغنّي فوق الركام.
يا لهذا الشرق الذي كان مهد الحضارات، صار الآن مهد المقابر!
الذي اخترع الأبجدية، نسي كيف يكتب كلمة “سلام”.
الذي علّم العالم معنى الشعر، لا يجد بيتًا واحدًا يأويه.
فيه تُنهَب الأحلام على الحواجز، وتُكمم القصائد بالرقابة، وتُباع الحرية في المزاد.
أما الإنسان، هذا الكائن الصغير المجهول في خريطة الكبار، فهو يدفع الثمن وحده:
ثمن الحروب التي لم يخترها، والسياسات التي لم يفهمها، والوعود التي لم تصله.
تسأله عن مستقبله فيضحك — ضحكةً قصيرةً كزفرةٍ — ثم يقول: “أي مستقبل؟ إننا بالكاد نملك غدًا واحدًا!”
ومع ذلك، ما زال في الزوايا بصيص حياة.
ما زالت الأم تزرع الورد على الشرفة، رغم أن الشارع مليءٌ بالرماد.
وما زال الطفل يرسم شمسًا على جدار المخيم، رغم أن الكهرباء غابت منذ أشهر.
وما زال الشاعر يكتب، لا لأن أحدًا يقرأه، بل لأن الصمت أثقل من الموت.
في الشرق الأوسط، كلُّ شيءٍ ينكسر… إلا الأمل.
ينهض من بين الركام مثل عود ثقابٍ في ظلمةٍ كثيفة،
يضيء ثانيةً، رغم الريح، رغم الحزن، رغم كلّ ما خسرناه.
أيها العالم،
كفّ عن إرسال بيانات القلق إلينا، فنحن غارقون فيها حتى الأذنين.
قلقكم لا يُشبع جائعًا، ولا يدفئ طفلًا ينام في الخيمة.
خذوا مؤتمراتكم ووعودكم إلى مكانٍ آخر، فنحن نملك منها ما يكفينا لتدفئة 冬ٍ كاملٍ من الكذب.
أوقفوا خطابات الشفقة، وارسلوا لنا قليلًا من العدالة، فهي نادرة هنا أكثر من المطر.
لسنا بحاجةٍ لمزيدٍ من النشرات الإخبارية، بل إلى نشرة طقسٍ تقول إن الشمس ستعود يومًا إلى هذه البلاد.
لسنا ضحايا بالولادة، نحن بشرٌ أنهكتهم الجغرافيا والسياسة والخذلان.
أيها العالم،
نحن لا نريد أن نكون العنوان الدائم في صحفكم،
ولا المشهد الأخير في أفلامكم الوثائقية،
نريد فقط أن نعيش حياةً عادية،
أن نزرع ونحبّ ونشيخ بسلام،
أن نموت على أسرّتنا لا تحت الركام.
وحتى يحدث ذلك، سنواصل السير حفاةً فوق هذا الرماد،
نضحك كي لا نبكي،
ونحلم كي لا نموت مرتين.
ففي الشرق الأوسط، لا شيء ينهض كل صباح…
سوى الإنسان، رغم كل شيء.