قراءة لتاريخ مصر..عندما يبنى التحديث على متناقضات النتيجة تصادمات
قرنان نحاول. منذ أن سحقت مدافع جنرال الفرنجة أبواب حصوننا، بعد قرون، كنا نعاس خلالها في كهف، نعيش في دفء حماية السلطان، وعصمة بابه العالي. لنصحو على عالم مختلف، غريب، عالم ما أنزل الله به من سلطان. لينبري باشا، أمسكته الرعية زمام حكم البلاد؛ ليبني جيشاً، حديثاً، قويا، ويجعله، عمود خيمة الدولة والسلطة (الحديثة). وتبعه في طريقه الشيخ المعمم، بأن حاول بناء توفيق فكري، للتحديث ولنهضة البلاد والعباد، تحت ظلال عباءة الباشا.
تحديث سعينا إليه بنقل ثمار الحداثة ومنتجاتها على الجاهز؛ عبر مدفع، أسطول، مدرسة …..الخ وبعد قرنين من مشروع الباشا وتابعه شيخ التحديث. نظل نجري وراء المُنتجات والثمار. مُستهلكين، وعالة، من أي فون الى حاملة طائرات هليكوبتر إلى فانوس رمضان الصيني، وملابس فيكتوريا سيكرت الداخلية، وخط النت. منتجات، وأدوات، لو تعطلت، لا نملك قطع غيارها. لنصل بعد قرنين من محاولات التحديث إلى مجتمعات؛ تنفجر، من داخلها، على أساس الدين، والمذهب، والعرق، بل حسب الجهة والمدينة والقبيلة والطائفة. صراعات سيطرة الذكور على الإناث. وفرض جيل شاخ، تقاليده على جيل شب. تناحر بين تقاليد مجتمعات الصحراء ومجتمعات الأودية والأنهار. ليست صراعات تَجَادل حي، يبني، ويزرع. بل صراعاتٌ تُصادِر على المخالف، وتنتهك عرض المُختلف. مُجتمعات تتشظى تشظي جدارية من زجاج هش هوت على صخور، تراثية وحداثية. مجتمعات مصائرها ومصائر شعوبها، تُحدد خارج أراضيها، من أشخاص يرسمونها على أوراق علب سجائرهم، في جلسات مرح. فلماذا بعد قرنين من محاولات التحديث وصلنا إلى هذا التشظي وتلك الإنفجارات؟ عملية التحديث هذه مع كل أزمة ومع كل تراجع تتعرض لهما، تقوم بمراجعات للمشروع ولمعادلته؛ ففي نهايات القرن التاسع عشر، ومع الإحتلال العسكري المباشر لمعظم البلاد التي يسكنها عرب ومسلمين، تمت مراجعات ومحاولات إصلاح وتصويب لعملية التحديث، فكانت الصحف ومنظمات المجتمع المدني والبرلمان والجامعة (الحديثة)، جامعة “دينها العلم” تحاول أن تُخرِج مشروع التحديث من أزمته، لتنتهي “الجامعة الحديثة” بعد قرن إلى مجرد تكوين سلطوي مُسيس، خنق فيها التقليد كل تجديد وهمّشه، بل وحاكمه، وفي أغلب الأحيان طرده خارج أسوار كهنوت الأكاديمية باسم الأمن والاستقرار مرة، وباسم الحفاظ على الثوابت مرات. لتتجدد المراجعات بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة، ونشوء سؤال من نحن مع ثورات العرب في بدايات القرن العشرين. لنختتم النصف الأول من القرن العشرين مع (نكبة) فلسطين. ولا يكاد يمر عقدان عليها وعلى التحرر من الاستعمار العسكري المباشر، لأراضي. حتى تأتي هزيمة سنة سبعة وستين، التي لم تكن مجرد هزيمة عسكرية. بل كانت هزة كبيرة، نكأت أسئلة الهوية، وأسئلة الدين. بل أعلنت الهزيمة سقوط معادلة مشروع التحديث ذاتها بعد قرن ونصف لها. ليدخل العرب في مراجعات. تتعرض للجذور مرة أخرى، فمن: “الثابت والمتحول” إلى “تجديد العقل العربي”، “التراث والتجديد” إلى “نحن والتراث” و “نقد العقل العربي” إلى “من التراث إلى الثورة” إلى “تجديد النهضة باكتشاف الذات”. “من الاجتهاد الى نقد العقل الإسلامي” … لنختتم القرن الماضي بمراجعات على المراجعات ذاتها ب “مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق” و “التراث بين التأويل والتلوين”،”نقد نقد العقل العربي”.و”لعبة الحداثة بين الباشا و الجنرال” و”ثورات العرب خطاب التأسيس”. نصف قرن من المراجعات لندخل القرن الواحد والعشرين، بمجتمعات إنفجارية، إنفجارات من داخلها وأخرى من خارجها، إنفجارات تراثية و إنفجارات حداثوية. ولم تستطع الثورات الأخيرة لبعض قبائلنا، أن تحقق على السطح المرئي، أهداف لها. لنعود لنفس السؤال الذي بدأنا به. لماذا؟. لماذا فشلنا خلال قرنين أن ندخل العصر الحديث؟ ألا يحتم علينا الحال، أن نعيد النظر نقديا في مشروع التحديث ومعادلته التي قام عليها خلال القرنين الماضيين. وأن ننقد محاولاتنا مقاومة هزيمة سبعة وستين، الفكرية، خلال النصف قرن الماضي؟ ومن ناحية ثالثة مراجعة عمليات نقد النقد التي بدأت حول هذه المشروعات الفكرية، منذ نهايات العقد الأخير من القرن العشرين. السؤال الذي تطرحه علينا ثورات العرب أو ثورات بعضهم هو” لماذا وصلنا الى ما وصلنا اليه؟ وكيف نبني حداثة حقة، حداثة ليست تقليداً ولا نقلاً. حداثة تستوعب التراث وتتمثله وتستوعب تراث الآخر وتتمثله لا لكي تقلدهما أو تعيد إجترارهما، وإنتاجهما، أو تعيد التعبئة والتغليف. بل تتمثل وتستوعب لتتجاوز. تتجاوز الوضع القائم من خلال مولود جديد حي لا هو التراث ولا هو إنجاز الآخر بل كائن، نابض، متمثلٌ به ومن خلاله، جدليا؛ مكون مما هو وحي وفاعل وإنساني في تراثنا ومما هو حي وفاعل وإنساني من إنجازات الإنسانية في عصرنا. وعينا بتجربة التحديث طوال الوقت مُفتت، وعي مُجزأ، وعي يتناولها كشخصيات، واحدة منها هي وحدة متكاملة مكتفية بذاتها. أشبه ما تكون منفصلة عن سياقها التاريخي/الثقافي، بل نتناولها أجيال، ونتعامل مع تعاقب الأجيال وكأنه قدر، آت من خارج التاريخ والثقافة. وليس ظاهرة ناتجة من تفاعل جدلي مع واقع إجتماعي/ ثقافي. حتى أصبح هناك شبه اتفاق بين دارسي الفكر العربي، على لا تاريخية الفكر. “التاريخية” بمعنى الجدل الفاعل بين الإنسان والطبيعة والمجتمع ومع التصورات عن الغيب. وليس التاريخ بما هو وقائع وجزئيات متجاورة منفصلة كوحدات كاملة بجوار بعضها البعض. الجانب التالي هو تغييب الإنسان من المشهد، تغييبه كذات فاعلة، فعلُها ووجودها يُشكل ويؤثر في الاجتماع والسياسة والثقافة. فالإنسان في ثقافتنا مجرد أداة، ديكور في المشهد. إنسان فاعل؛ على سبيل المجاز، فالفاعل الأول، الفاعل على الحقيقة هو الله القاهر فوق عباده، وكل فعل الإنسان مجرد مناسبات، إنه فعل على سبيل المجاز، لكن الفعل الحقيقي، خارج عن التاريخ وعن الاجتماع وعن قوانين الطبيعة. وخليفته في الأرض هو السلطان قديما، أو الحاكم الفرد الصمد،الآن ولو حتى بديكور نيابي/تمثيل/ ديمقراطي. فغياب التاريخ كفاعلية جدلية، وتغييب الإنسان كذات فاعلة، حول درسنا الفكري لتراثنا ولماضينا وللآخر وتراثه، إلى مجرد شريط طويل من وقائع وأحداث وأشخاص، هي نقاط كاملة، منفصلة عن بعضها، يمكن تفسير كل ظواهر الشريط بالتفسير ونقيضه، دون أي إحساس بتعارض. فيصبح التراث هو الحل وكذلك هو سبب كل ما نحن فيه من مشكلات. ويصبح الآخر الغربي هو النموذج الكامل وهو المثال والحل. وكذلك هو العدو والغزو الثقافي والخطر والمؤامرة التي يجب أن نقاومه، ونتقي شروره. لا نعرف لماذا وكيف مع كل تراجع وهزيمة تواجهنا، يزداد المجتمع محافظة ويزداد احتماءاً بالماضي وبالتراث استعاضة عن النقص والضعف الذي يعيشه وما يواجهه من هزائم؟ نحتاج إلى درس دقيق لهذه التجارب خلال القرنين الماضيين درساً نقديا، درساً يحفر عن أسباب وعوامل الضعف ولا يكتفي بالحفر بحثا عن البترول أو حفرا في التراث بحثا عن مجد يحتمي به من ضعف واقعه. وننبش في بذرة التحديث ذاتها وطريقتنا في التعامل مع الحداثة، وهل طريقتنا في التعامل مع التراث ومع الحداثة هي سبب هزال ثمار التحديث بعد قرنين من المحاولات؟ ونحاول الكشف عن عوامل استمرار غياب التاريخية الجدلية في وعينا وفي ثقافتنا؟ وعوامل تغييب الإنسان الفاعل في المجتمع وفي الطبيعة لحساب الإنسان الأداة، الديكور، الإنسان الفاعل على سبيل المجاز؟تحديث مُسيس ومُعسكر
الحداثة الأوروبية الغربية جاءتنا غازية، على ظهر بارجة حربية، وبنيران بارود ينسف البشر والحجر. حداثة مُعسكرة، حداثة مُنقضة، خطر داهم، فسعينا لرد الخطر عنا. ومقاومة اقتلاع رياحه، العاتية، لأشجارنا الثقافية وجذورها. هذا التحديث الغازي المُعسكر، سواء تحت شعار الثورة على الرجعية وأنظمة حكم استبداد العصور الوسطى. عام (١٧٩٨/ ١٢١٢ّ). أو (١٨٣٠/ ١٢٤٥) أو في الهند (١٨٥٧/ ١٢٧٤) و (١٨٨٢/ ١٣٠٠) . أو تحت شعار نشر الديمقراطية كقيمة عالمية إنسانية ضد الديكتاتورية في (٢٠٠٣ / ١٤٢٣)
هو تحديث غازي قائم على تصور أن؛ هذه الشعوب لن تدخل العصور الحديثة عن طريق، أنوار العقل واختمار الأفكار، في المجتمع، عبر تفاعل إجتماعي/ ثقافي. بل تحديث قائم على أن السبيل لنهضة هؤلاء الناس هو “قوة قاهرة على قوم وادعين جُهلاء” تفرض، جبرا، رغما عنهم. فلن يوَاجَه الاستبداد السياسي، و الوعي الديني الغارق في الماضي، بأنوار العقل. وبقوة الأفكار التي تبني وتغير الوعي، ليتحرر الإنسان من داخله، فيحرر نفسه سياسيا من الإستبداد، ودينيا من وصايا الدين وأوصيائه. ويتحرر مجتمعيا، بنقد التقاليد من داخلها، وفك أسسها من داخل الوعي المجتمعي. فالتحديث المعسكر يرى أن التغيير يحتاج إلى قوة قاهرة تفرضه جبرا، حتى ولو كانت غازية.
هذا التصور، قائم على أن الحداثة يمكن أن تُنقل وأن تُقلد و يتم فرضها بالقوة. ويتم اختصار الحداثة في ثمارها، ومُنتجاتها، وهذه يسهل نقلها. و بنقلها نصبح معاصرون وحداثيون. الحداثة هنا، مجرد مكون خارجي، مادي. الجانب الثاني لهذا التصور: هو اختصار معوقات التحديث في؛ الإستبداد السياسي، فما أن يتم القضاء على هذه الفئة المستبدة الظالمة أو ذلك الحاكم الديكتاتور، سيتفجر التحديث ويمطر التقدم، وتعم النهضة. وعلى مدى القرنين الماضيين فشل التحديث المُعسكر الغازي، مرة تلو الأخرى.
وحين سعى المشايخ، أن يولوا الباشا حكم البلاد:”بشروطنا”، و ينزعوها عن والي الخليفة، وضد إرادة بابه العالي. فإن الباشا الجديد شعر، بضعف دولة الخلافة، وشعر بالخطر الآتية رياحه من الشمال عاتية، وأن المنظومة القديمة، لا تُغني ولا تحمي من خطر. وأنه لا سبيل للانعزال عن العصر. حتى لو حاولنا الانعزال، فلن يتركنا عصرنا ولا قواه الفاعلة، أن نتكهف بكهف. فلابد من التغيير.
كانت بنية السلطة، قائمة على القوة المباشرة، الحاكم الفرد، الصمد، يفرض وجوده بقوة الشوكة، لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون. والسلطة تقوم بوظائف محدودة في المجتمع، حماية البلاد من الأعداء، وجمع الضرائب، واستباب الأمن العام، فكلما كان الحاكم قويا، وممسكاً بزمام الحكم. وسلطته سارية عبر خوف الخائفين من الخروج عليه. وساكناً في القلعة المُحصنة، فهذا غاية المُراد، وقمة الاستقرار. وليس للناس دور أو فاعلية في ممارسة السلطة أو في تقرير الأمور السياسية العامة. ونخبة المشايخ والتجار، تشير ولا تتدخل في الأمر. لذلك كان المجتمع تقريبا يدبر أغلب أموره الحياتية اليومية عبر كيانات مجتمعية أهلية؛ فمساحة العلاقة بين فرد وفرد في المجتمع، تنظمها أعراف اجتماعية، وفقهية تم اختصارها في كلمة:”الشريعة”. وظلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ضعيفة في المنظومة الفقهية، تناولها مبحث “السياسة الشرعية” والتي هي أقرب لمؤلفات تصور واقع ما حدث في تجربة دول المسلمين، أكثر مما هي تحاول تأصيله نظريا وفكريا، عبر مقولات الفقه وأصوله.
هذا جعل سلطة الحاكم في الغالب مُطلقة، ولكنها سلطة فوقية، فأمور التعليم والأوقاف والتجارة والمعاملات، هي أمور مجتمعية وأهلية في الغالب ليست السلطة طرف فيها. وحتى القضاء بصورة غالبة كان يختص بأمور المعاملات بين الأفراد و المواريث، ومسائل الزواج والطلاق. حسب الفقه التقليدي وحسب تقاليد الطوائف كل طائفة حسب معتقداتها. فلم تكن هناك أجهزة دولة داخلة في هذه الشؤون.
ليرى الباشا/السياسي أنه لا سبيل لمواجهة الخطر الغربي إلا عبر قوة جيش وسلاح حديث. جيش أصبح هو العمود، الذي تقوم عليه خيمة ماكينة الدولة الحديثة وتنظيماتها، من إداري، ومن مدارس ونظم تعليم. ومصانع/ فوريقات، ومن نظم اتصال ومواصلات، جيش تُنشأ حوله الدولة بأرضها وببشرها. فحين يُصدر الباشا تنظيم إداري عبر “سيستنامة” كتنظيم إداري مكتوب؛ بإنشاء سبع دواوين فأربعة منها تدور حول الجيش تقريبا، ديوان للجهادية و للبحرية وللفوريقات، التي هي مصانع للإنتاج الحربي وما يتعلق به (من ملابس للجيش و ذخيرة … ) وديوان للمدارس، التي هي مدارس عليا (سواء للتدريب العسكري أو القصر العيني لصحة الجيش، أو المهندسخانة أو مدارس مبتديان (ابتدائية) ومدرستان تجهيزيتان (ثانوية)…) وديوان للوالي وديوان للإيرادات و ديوان للتجارة والأمور الإفرنجية. أي أنها العناصر السيادية للسلطة، من جيش وعلاقات خارجية ومالية وأمن داخلي. هذه الدواوين صلتها مباشرة بالباشا، ولا صلة لها ببعض. فكل الأطراف هي أطراف تتجمع عند الباشا وفي حِجرِه.
عملية تحديث مُسيسة، يحدد أهدافها رجل السياسة/ الحاكم، هي أيضا اختصرت الحداثة في ثمارها ومُنتجاتها. هذا التحديث المُسيس قائم على حداثة منقولة ثمارها ومنتجاتها المادية. دون الأشجار التي أنتجتها، ولا طريقة الزراعة التي أنبتت أشجارها؛ من أسس فلسفية وفكرية، وقيم. وقام التحديث المُسيس على التجاور بين القديم على حاله، وإنشاء نُظم حديثة تجاوره. بل حاولنا التوفيق ان يظل القديم على حاله ونطليه من الخارج بطلاء حديث. وإذا كانت الحداثة في أوروبا قد نقلت الحكم، من حكم الفرد المُطلق، إلى حكم القانون، من حكم الفرد إلى حكم المبدأ، وعبر تقاسم السلطة في جوانب ثلاثة مُستقلة تتعاون في سياسة أمور البلاد. وأصبحت هناك منظومة حقوق تحمي الضعيف من سطوة الأغنياء. وتحفظ حقوق للضعفاء في مواجهة الأقوياء أصحاب النفوذ. وعملت هذه الشعوب عبر قرون وعبر تجارب تاريخية مرت بها.
فكيف سيتعامل الباشا مع هذه المفاهيم عن السلطة؟ وكيف سنوفق بين حكم الفرد المطلق القديم و وبين حكم المبدأ وتوزيع السلطات الحديث؟
لقد سعت السلطة لاستخدام مُنتجات الحداثة، ونظمها الإدارية، كقشرة خارجية، وطلاء. كبدلة تُلبس. ويظل تحت سطح قشرة الحديث الفاعل هو سلطة الفرد المُطلق، رابضة تحت السطح. فالسلطة “الحديثة”، و دولتها “الحديثة” جيشها “الحديث” تديره أسرة الوالي وأشياعهم. ويظل الفرد في هذه المنظومة “الحديثة” مجرد أداة، يدفع ثمن تطلعات الباشا السياسية التوسعية، الحالمة بميراث دولة الخلافة المريضة. فلا هو ظل مجرد رعية من رعايا الباشا حسب النسق القديم ولا هو وصل ليكون مواطن ذو حقوق وحريات محمية حسب التصورات الحديثة.
بل إن التحديث الفوقي المفروض جبراً سعى إلى تكسير عظام المجتمع، بتفريغ تكويناته الاجتماعية التقليدية الموروثة من العصور الوسطى، عبر خلق رأس لكل كيان اجتماعي، والسيطرة على الكيان، من خلال سيطرته على رأسه، فيصبح التوين الاجتماعي مجرد هيكل “مخوخ” من الداخل.
ولو لم يخضع الكيان الاجتماعي، خضوعاً تاما، يتم القضاء عليه بالتدريج. ليتحول المجتمع ويتحول تكوينه إلى مجرد أرض وسلطة وجحافل من البشر، بدون هيكل عظمي، إجتماعي. ويصير المجتمع مجرد كوم من اللحم والشحم، أو مجرد قطيع يتم التحكم فيه من خلال ميكرفون إعلام وعصا أمن ضاربة، تحتكرهما سلطة.
سلطة تتصور حسب تقليديتها، أن وجود اي كيان او قوة أو تنظيمات، هي خطر عليها يجب السيطرة عليها أو تفريغها من مضمونها وإما القضاء عليها. وإذا ضرب عمود خيمة التحديث المُسيس كما حدث سنة (١٨٤٠) وحددت أعداده وتسليحه أو ضرب أذرعه فلا تطول كما حدث سنة (١٩٦٧) ينتهي الزعيم ويتحلل التحديث وتدخل البلاد في نفق، مُظلم، من التشظي. قرنان من التحديث (المعسكر/الغازي) والتحديث (المُسيس/ السلطوي/ الفوقي) ليظل تحديثنا مجرد قشرة، خارجية، جافة، رابض تحتها القديم بتصوراته، حية وفاعله، نابضة، تسعى. فهل من سبيل لتحديث جديد لا هو (مُعسكر/ غازي) ولا هو (مُسيس/ سلطوي/ فوقي) تحديث نزرعه في أرضنا حياة وليس مجرد نقل تسليم مفتاح لنتاج ما زرع آخرون؟
والله أعلم