استحضار النظام السياسي والقانوني في حضارة دلمون لزمن المملكة البحرينية
صدر للزميل د. علي فيصل الصّديقي كتاب بعنوان “تاريخ النظام السياسي والقانوني في حضارة دلمون”.
عندما قمت بقراءة الكتاب تبادرت الى ذهني عدة أسئلة. كان من أكثرها وروداً علي: هل الكاتب يبحث عن
ذاتنا المنصاعة لنظام حضاري عبر تراثنا القديم جداً؟
أو إنه يرسم هوية بمَنْ نحن اليوم من حيث البعد الزمني؟ أم أنه كتاب يبحث عن دور للقانون في عصرنا
الراهن بالعودة الى التاريخ؟
التاريخ كمشروع سياسي وقانوني
لقد جمعتني عدة سفرات الى معارض الكتب في الدول المجاورة مع الكاتب علي الصِّديقِي. وتبادلنا أطراف الحديث حول مواضيع معرفية قانونية بحكم أن الأستاذ علي الصِّديقِي متخصص بمادة القانون.
وها هو اليوم يطل علينا بكتاب يكشف لأول مرة عن جذور الهوية البحرينية المرتبطة بنظام سياسي وقانوني عمره
آلاف السنين. حقيقة لم يسبق أن قام كاتب متخصص بالقانون وينتمي الى أقسام معرفية غير مرتبطة
بالحفريات الأركيلوجية والأنثربولوجيا بالكتابة عن أمة دلمون.
فدخول قلم علي الصِّديقِي على التراث والتاريخ أزاح جوهره من كونه مشروع تاريخي النزعة الى مشروع سياسي- قانوني.
إتمام مكارم الأخلاق والتصالح مع كل إيجابيات الماضي
نعم، لسنا بدعاً فيما نعانيه من أزمة الوعي بالذات التاريخية. فثمة في تاريخ الإنسانية مواقف تجعل تناول إرث الأمم الفكري جزء من ذاكرتها الثقافية أو جزء من تناسياتها الثقافية. لعل إرث حضارتنا الدلمونية عانى
من نُبُوِّ الذوق العربي عنه. فثقافتنا الراهنة، لسبب أجهله، لا تُثِير أسئلة تُرَغّب فينا طلب المزيد من المعلومات
عن حضارات تنتمى إلى زمن ما-قبل-الإسلام. في حين أن القرآن العظيم صدر عن نهج حضاري كبير.
فقد اختلف كتاب الله، تعالت صفاته وحَسُنت أسمائه، عن معارفنا وسلوكياتنا الراهنة حيث أن آياته الشريفة
بادرت بذكر أحوال الأمم الماضية وغرّزت بأذهاننا مفهوم أن التاريخ مجال تَعَلّم وتَعَبّر.
في ثنايا ثقافة عازفة عن تناول ما قبل لإسلام نجد فجئة أننا أمام كتاب يأخذنا إلى زمن الماضي ليزودنا
بمعلومات حول الشعب البحريني في حقبة حضارته الدلمونية.
بل يمكننا القول بإننا أمام كتاب إستذكر من نثارة أفكار حائرة وغامضة جزئيات تخبرنا عن مكارم أخلاق
مجتمعنا الملتزم حينها بحس قانوني راقي جداً.
إشتقاق التراث غير المادي (intangible heritage)من التراث المادي (tangible heritage)
قد يتبادر الى ذهن الكثير منّا كيف تمكن الكاتب من التعرف على نظام دلمون السياسي والقانوني؟
سيجد القاريء أن المؤلف قام بدراسة بقايا تراث دلمون المادي (tangible heritage) مثل الأختام
والألواح ومدونات الأمم المجاورة عن أهل دلمون للتوصل الى تراثهم غير المادي(intangible heritage) من مثل أنظمتهم الإجتماعية السياسية والقانونية.
لقد لفت إنتباه المؤلف حرص الفرد الدلموني على إمتلاك ختم يخصه ليختم به وليشير إلى ذاته كجهة أنجزت تلك الخدمة (كتوليد الأطفال) أو المنتج (كالفخار) أو ليوثّق عملية بيع تجارية أو ليشهد على ذاته أنه رهن
أشياء مقابل مال أو مقايضة شيء بشيء. كما إنتبه الكاتب إلى أن ظاهرة إنتشار الأختام لم تكن مقتصرة
بين النخب بل كانت ظاهرة إجتماعية تميز بها المجتمع الدلموني مما قاده إلى دراسة المفهوم السياسي
والقانوني الجماعي (collective political and legal conception) في المجتمع الدلموني.
قانون دلمون ليس بثابت بل متحرك
يُطلق إسم مملكة دلمون على حقبة زمنية إمتدت لقرابة ثلاثة آلاف سنة بدأت من أواخر الألف الثالث قبل الميلاد حتى منتصف الألفية الأولى بعد الميلاد.
وتحدّث المؤلف أن خلال هذه المدة أُعيد بناء مدينة دلمون (العاصمة) خمسة مرات.
سيجد القاريء أن الكتاب يتابع تحرك معنى القانون في المجتمع الدلموني. فقد إنتبه المؤلف أن مقاس وحجم الأختام في الفترة الدلمونية الأولى كان متبايناً في حين أن الأختام أخذت حجماً ثابتاً في المرحلة المتأخرة.
يرجِّح الكاتب إحتمالية وجود جهاز إداري معني بتصديق حقوق ملكية ما يحمل الختم من صور وأشكال وكتابات. فبدون وجود جهاز مركزي يتابع براعة التصميم سيخسر الختم مصداقيته. كما يرجِّح الكاتب أن
يعود إلى هذا المركز فضل إنتاج الأختام ذات مقاييس وأبعاد واحدة في مراحل دلمون المتطورة. مع مثل هذه
المتابعة الدقيقة والمتأنية قادت الكاتب الى إستنتاج أن رجال ونساء العقل القانوني في دلمون كانوا ينتمون
إلى ثقافة متطورة ترى أن القانون يتحرك ليلبي متطلبات تستحدث وتستجد من حقبة دلمونية الى أخرى.
تشريع الإنتظام في حضارة دلمون
الكتاب أولاً وأخيراً يتحدَّث عن فكرة النظام والإنتظام لدى الشعوب القديمة. من أجل هذا كان من المهم على الكتاب التطرق إلى ما يسميه الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (ت. ١٩٩٨م) بالسردية الكبرى
(grand narrative) المؤطرة للشعوب والأمم. بمعنى آخر يحاول الكتاب الإجابة على سؤال ما هي تلك
السردية الكبرى التي من خلالها برّر المجتمع البحريني، في حقبته الدلمونية، الشرعية لتنظيم مجتمعه في إطار ديني-سياسي-قانوني واضح المعالم؟ لتحقيق هذه الغاية تطرّق الكتاب إلى ما كان يردده النظام من إرتباط “الُملْك” بالسماء على أفراد المجتمع الدلموني. ففي هذه السردية الدلمونية نجد أن المَلِك البشري
“ريموم” ومن خَلَفه هُم خَدم لإله سمَاوي إسمه “إنكي”. إختار “ريموم” الملك الكاهن أن يجعل من مياه
العيون العذبة (أي مصدر الحياة ومصدر ري المزارع في دلمون) مصدر قوته السياسية-الدينية. وخصص له عين معينة ليدير من خلالها المملكة وليعزز في عقل الناس السردية الكبرى القائلة بأنه مخول من “إنكي” لحكم الناس وإدارة المياه العذبة. فاتخذ الملك من موقع “بئر الماء”، وهو موجود حالياً في قرية باربار
البحرينية، كرمز لموقع سياسي-ديني مقدس في مملكته. نجحت السردية في كسب عقول وقلوب الدلمونيون
حيث كان الدخول الى هيكل البئر للشرب والتغسّل بالماء المقدس معتقد مهم وراسخ في قناعة عوام دلمون. علماً أنه يمكن القول بأن الشرب والتغسّل بماء عين الملك رمز قوي لمعاني الطهارة والتطهر. وعليه يمكن القول
أن السردية الدلمونية أنتجت، عن قصد أو دون قصد، رمز “طاهر” في ذهن أبناء حضارة دلمون. مثل هذا
المعنى إنتشر إلى خارج جزيرة البحرين ليصل إلى الاحساء وجزيرة فيلكا. ومع الوقت تحول مفهوم الطهر
والطهارة إلى صورة نمطية عن أهل البحرين القديمة، وامتدّ هذا الإعتقاد حتى شمل بعض الحضارات المجاورة كالسومريين في وادي الرافدين.
فكرة الرأسمال الرمزي عند الدلمونيين
لم تمتلك جزيرة دلمون كثافة سكانية توفر لها قوة عسكرية تمكنها من خوض معارك عسكرية ليكتسبوا منها إقتصادياً. فكما سبق وجد أهل البحرين أن سرديتهم الكبرى التي ربطتهم بالماء المقدس والطهر والطهارة
تمكِّنهم من توظيف سياسة “السمعة الحسنة” لتكون سمة rand”b“ فارقة يتميزون بها عن باقي أمم الجوار ولتكون حرزاً لهم من عدوان الدول الغازية. فكرة السمعة الحسنة كرأسمال رمزي(
symbolic capital) عند الدلمونييون تم إخضاعها لتحقيق أغراض نفعية. فالسمعة الحسنة تروج
من خلال المعتقدات لتجارها، لصناعها، لمهرتها مما يعزز ثقة الناس والمحيط المجاور بمصداقية أهل دلمون
الإقتصادية. السمعة الحسنة سمحت بتحويل البحرين-دلمون إلى مركز سوق إقليمي ومحطة لنقل البضائع (أي الترانسيت، إن صح التعبير) بين الممالك.
الختم كشهادة ضمان الجودة
ولكي يعزز الدلمونيون سمعتهم إتخذ كل تاجر ومزارع وصياد سمك وصاحب مهنة ختم خاص به ليختم به على كافة معاملاته الإقتصادية. لكن كيف يتسنى للختم أن يعمل كشهادة ضمان الجودة؟ أمام هذا السؤال
يرجِّح المؤلف وجود قانون يحمي البائع والمشتري مع وجود جهة ضامنة للحماية. مع هذا التسلسل العقلاني والتأولي يتوصل الكاتب من ربط الأختام بنظام قانوني ينتظم كافة المجتمع الدلموني به ومن خلاله.
كما أن الآثار كشفت لنا أن كل ختم تميّز بما يحتويه من صور وأشكال وكتابات عن أي ختم آخر، وعليه رجَّح الكاتب أن الذهن الدلموني القانوني توصل الى فكرة حقوق براعة الختم. هذا الختم العلامة (logo) أو الماركة
(mark) أو السمة (brand) المُمَيِّز لكل فرد عن الآخر تتطلب جهاز متخصص يستطيع أن يمنع إنتاج أختام متشابهة. يتوصل الكتاب الى خلاصة مهمة تبرز إستعداد الدلمونين للإنتظام الثقافي والإلتزام القانوني
وبخلق مؤسسات تساعدهم على تحقيق النظام وعلى إدارة النظام. بمعنى آخر إستدامة النظام. وهذا لعمرك أمرٌ ملفت النظر عن سيرة أجدادنا الدلمونيين.
فصول الكتاب
نشر الكتاب في عام 2020 ابن النديم للنشر والتوزيع الجزائرية ويحقق الكتاب غايته من خلال خمسة
فصول. بدأت صفحاته في الفصل الأول ليقدم للقارىء معلومات تعرّفه بحضارة دلمون من خلال محور الدين ومحور الإقتصاد ومحور الأختام الدلمونية. بعد ذلك يتشعب الفصل للحديث عن الوظيفة الإجتماعية للقانون
وعن الممارسات التجارية الدولية وانتقال المعارف بين الشعوب.
الفصل الثاني يبحث عن العلاقات السياسية والاقتصادية بين مملكة دلمون وبين ممالك سومر والأكاديين والبابليين والآشوريين والعيلاميين والأخمينيين والمقدونيين والفراعنة والميلوخيين والماجانيين.
الفصل الثالث يدرس مصادر القانون من حيث التقاليد الدينية والأعراف السائدة ومن خلال النصوص المكتوبة ومن خلال تأويلات لما تبقى من آثار الدلمونيين.
الفصل الرابع يجعل من مظاهر تنظيم المملكة العامة غايته. فتطرق الى تأسيس مملكة دلمون وتاريخها وإلى نظام الحكم في مملكة دلمون وإلى نظام السلطة الإدارية.
الفصل الخامس بحث في القانون الخاص بين الأشخاص وأنواع العقود والإلتزامات ونظام الإثبات المدني والتجاري وحق الملكية في المجتمع الدلموني.
كلمة ختامية
الكتاب يمثّل عودة ابداعية ونقدية للذات في امتدادها وشمولها منذ دلمون. ويوفر حساً تاريخياً لمعنى مجتمع إستطاع من خلال ثقافة السمعة القانونية الحسنة أن يفتح له مجال ليتطور وينمو بين أمم ضخام.
وكما يقول الأستاذ المصري شوقي جلال (و. ١٩٣١م) فإن مساحة إكتشاف ذاتنا قضية إستدامة لنا فإعادة كتابة التاريخ يجب أن لا تتوقف. نعم ليس كل قديم مناسب لنا ولكننا نريد القديم الحي المختار عن وعي
وفعالية اتساقاً مع واقعنا نحن، وعصرنا نحن، لنصنع به حياتنا نحن على نحو ما نرى نتاجاً ابداعياً ….
عليه، فإني أعتقد أن كتاب “تاريخ النظام السياسي والقانوني في حضارة دلمون” كتاب تصدر مهمة
إكتشاف ذاتنا لقديم حي ومختار عن وعي ليخدم واقعنا وعصرنا الذي هو بأمس حاجة الى ذاك النظام
السياسي المقنن بثقافة قانونية جمعية.