لماذا يهتم العربي بالتشريع السماوي ولا يكترث بالتشريع القانوني؟

هناك شاب قانوني من البحرين تشدني كتاباته وتجذبني نشاطاته يبدو أن عنده غاية تحوم حول رفع سقف وعي الجماهير العربية بالثقافة القانونية. الدكتور علي فيصل الصديقي، لا يكتفي بالكتابة القانونية في

الجرائد اليومية ولا يكتفي بفتح قناة يتيوبية بل إنه أيضا ينزل إلى الشارع ليلقي محاضرات في مجالس الأهالي والحارات في مملكة البحرين ليحدثهم عن جوانب مختلفة في قضايا القانون. صدر له لغاية الآن

أربعة مؤلفات في مجال القانون، كما نشرت له عدد من البحوث والدراسات في مجلات عربية محكمة. وجدت

أنه يجب علي أن أتصل به لأناقشه حول محور الثقافة القانونية كجزء قلق من الثقافة العربية والذي تمخض

عنه هذا الحوار:

د. علي الصديقي انطلق التاريخ العربي مع القانون من خلال “الفقه”. فكل ما تطور المجتمع العربي وانتشرت بينه صناعات ومهن جديدة قام الفقهاء بفتح باب فقهي في أي شأن يستجد. ووضعوا له قوانين تنظم المهنة

والصنعة وتنظم علاقات العمال مع الأرباب ومن ثم مع المستهلكين لتلك المنتجات والمنتفعين من تلك الصنعة. 

مع نشوء الدولة الحديثة تثاقف مفهوم “الدولة” عند العرب مع الأوربيين وقاموا بتحديث مفهوم الحكم فدخل مفهوم التشريع القانوني كجسد معرفي منفصل من التشريع الفقهي. الغريب في الأمر أن العربي يبدي

حرصا شديدا على السؤال والتواصل مع الفقهاء من خلال المنصات التواصلية المتاحة في حين أنه لا يكترث

بالتواصل مع فقهاء القانون. نريد د. علي أن نشرح ونفكك هذه الظاهرة؟ 

باشرني د. علي الصديقي قائلا قد يكون من المناسب أن نرى سؤالك (د. محمد الزّكري) كسؤال إشكالي ومن

ثم أن نشخص الإشكالية في إطار الفكر القانوني في الوطن العربي.

واصل د. الصديقي قائلا أعتقد أن الفكر القانوني العربي يعيش أزمة حقيقية نتيجة إنحصار تداول معارفه

من مجال الفضاء العمومي إلى داخل الفضاء الخصوصي بين خبراء القانون. منذ إنبهر المثقف العربي بنضوج الفكر القانوني في أوروبا منذ قرابة المئة عام قام بترجمة ونقل هذه القوانين والمواد المنظمة للعلاقات التجارية والعمالية والمصانع ولكنه لم ينقل بشكل متوازي أدوات تثقيف المجتمع قانونيا المتَّبع في الغرب.

نعم في القرون الماضيات عندما كانت القوانين فرع من الفقه والعقل الشرعي تمكنت المجتمعات العربية من

خلق هيبة للقانون الفقهي بين أوساط المجتمع من خلال إقران الفقيه بين القوانين الفقهية ورضا الله على الملتزم

بها. كما أن خطبآء الجوامع يرددون في كل مناسبة وعند كل نازلة ما يناسبها من فقه “ظروفي” لتلك

المناسبة. فيرتبط وعي الفرد بأفضل سلوك عليه أن يسلكه عند خوضه لتلك الظروف. 

أيضا الفقهاء لهم مجالس ولهم حلق ويرتادها ليس فقط طلبتهم الراتبون بل يرتادها ضيوف من عامة المجتمع.

ومن هذه الحلقات الجماهرية العمومية ينتقل الوعي بالقوانين الفقهية إلى عامة الناس.

هذا التواصل الجماهيري بين فقهاء القانون الحديث وعموم الجماهير العربية لم يعد يسير في هذا المسار

النسقي. الإنقطاع من ناحية وتعقيد المصطلحات القانونية ومواضيعها التفصيلية الدقيقة تحشدت جميعها على تصعيب عملية نقل المعارف القانونية الحديثة إلى عموم الناس. 

لا يخفى على المتابع أنك (دكتور علي الصديقي) بصفتك فقيه في القانون الحديث وتخوض عملية التواصل الجماهيري مع عموم الناس من خلال مقابلتهم في مجالس الحارات البحرينية بروادها

فهل تعطينا فكرة عن تجاربك في  الفضاء العمومي العربي والبحريني خصوصا؟

هناك من الجماهير من يتابع ويتفاعل، خاصة مع الجاذبية التي يتمتع بها علم القانون، وتختلف أهداف

التفاعل أيضاً، فصنف يتفاعل من أجل موضوع القضية القانونية التي تتطرق لها هذه المحاضرات، وهناك من

يهتم من أجل البحث عن مشكلاته الخاصة وتجاربة الشخصية والبحث عن الحلول القانونية المناسبة. ان السير

في الفضاء العمومي مفيد جداً خاصة وأن السنوات الأخيرة غلب على الجماهير في المنطقة التحدث من

خلال الزوايا السياسية للقانون فحسب، في حين أن القانون علم واسع لا يقتصر على جوانب الحكم وإدارة

الدولة، بل يشمل كافة مناحي الحياة.

ما هي استراتيجياتك في اختيار المواضيع التي يرغب الجمهور العام حضورها وكيف تختار المبادئ القانونية

في كل محاضرة وما هي المفردات المرتبطة بتلك المبادئ وكيف تخفف من تعقيدها وما هي الأمثلة التي تستخدمها لتوصيلها إلى وعي المتلقي؟

الجمهور عادةً غير معني بالأصول والنظريات، بل معني بشكل أساسي بالمعالجات والأفكار المبسطة. لذلك

فإن اختيار موضوع المحاضرة يجب أن يتم بعناية ليحاكي حاجات الجمهور من جهة، وعلى جانب آخر فإن

المهمة أحياناً يجب أن تكون في غاية القدة حيث تتضمن تلك اللقاءات الشعبية نقل النصوص القانونية من

حالة الجمود إلى وضع متحرك يسير مع الواقع. مؤخراً قدمت محاضرة حول قوانين الغوص القديمة، وهو

موضوع مزيج قانوني – تاريخي، وقد وجدت نفسي أمام مهمة تفكيك المصطلحات وتبسيطها قدر الإمكان،

كي لا أدخل الجمهور في قضايا فكرية غلجة وغالبا ما يتم مناقشتها في الغرف العلمية المغلقة.

ولماذا لا تطرح القضايا الفكرية الخاصة بالمعارف القانونية في السياق الجماهيري العام؟

سؤالك يعيدني مرة أخرى إلى المشكلة المتعلقة بالفكر القانوني العربي، أي لماذا لا أناقش مشكلات الفكر

القانوني العربي في السوق الفكري العام. 

أولاً تقتضي هذه المناقشة نقد واقعنا القانوني بشيء من الصراحة، فالمغلوب مولع دائماً بالاقتداء بالغالب كما

يقول العلامة ابن خلدون، وهذا حال أمتنا الذي يستوحي أفكاره من الفكر القانوني الغربي.

ثانيا ليس بالسهولة نقد وخلخلة مناهج القانون الغربي الرائجة والمترسخة لدى فقهاء القانون وهم من يشكل

وعي المجتمع القانوني. فقد ساهمت الصدمة الحضارية من استيرادنا للقانون الغربي دون ضوابط موضوعية، كنتيجة طبيعية لتأثيرات السردية الأوروبية وقتها. 

ولكن هذا لا يعني بتاتاً عدم قدرتنا على انتاج المعارف القانونية، فالإمام محمد بن الحسن الشيباني شكل

مدرسة في مجال القانون الدولي، وغيره كثيرون.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد