بلادي وإن جارت عليّ عزيزةُ!

كيف تدّعي أنّ بلادَك وإن جارت عزيزة؟ هي لم تُذِقكَ جَوْرَها فقط، بل جعلت منكَ عِبرةً و “كبش فداء” في كلّ حرب ونزاع، في كلّ لعبةٍ شرِبَ نخبَها الأسياد والقادة والقوّادون، بينما أنتَ تُصارعُ على نافذة المخبَز الضيّقة

كان علينا أن نكون سعداء، أن نقضي هذا الوقت في فعل ما نحبّ، أن نثبت -لأنفسنا على الأقلّ- أنّنا أحياء فكراً وعاطفةً وجسداً.


كان علينا انتظار الحبّ بلهفة، واستقبال إنجازاتنا، مهما صَغُرَت بفرح. لم تكن أوطاننا ملجأً آمناً كما لقّنونا في المدارس، ولم يكن لدينا عوضاً عن كل مافقدناه ونفقده.


تُعاد صياغة المفاهيم حسب الواقع والظروف، وعلينا نحنُ القبول بكلّ تغيير تحت مسمّى “التأقلم” ، فرفض الواقع بما هو عليه لن يورثَ إلّا الفصام، أمّا القيم الأخلاقيّة فقد نَفَتها الحرب، ولم تترك منها إلا المِزَق الضئيلة.
في التجارة، سواء أكانت تجارة سُلعٍ ماديّة أم تجارة عواطف، أم إتجار بالبشر وكرامتهم، لا وجود للأخلاق. فالتجارة عمليّة مجرّدة، لا تحتمل أيّ نقاشٍ أخلاقيّ.


الفقر أيضاً، الذي يلتهمُ أطفالاً لا ذنب لهم ولا إثم، لا تقرَبهُ الأخلاق. إنّ الفقر والأخلاق عدوّان، والغلبةُ في معاركهما المستمرّة للفقر. كيف لكَ أن تكون جائعاً وتفكّر بقيمٍ بائدة وضعها فلاسفةُ الأخلاق في قصورهم؟ كيف لكَ أن تمنع طفلاً جائعاً من سرقة تُفاحةٍ في السّوق؟ أن تمنعه من استجداء عطفك بتملّقٍ وذلّ ومراوغة؟ بل كيف تُحاسبه على فعل السّرقة والشتيمة والجريمة؟
والفقر عدو العاطفة اللدود أيضاً، ومحاربها الأَشرس.


فلا علاقة عاطفيّة ولا صلة اجتماعيّة صادقة تقوم مازال الفقر قائماً.
ستخبو مشاعرك حتى نحو أطفالك، في كفاحك اليوميّ بحثاً عن لقمةِ العيش. وسيتحدد واجبك في تأمين ما يُمسك الرَّمق، وإيجاد سقفٍ تجتمعون تحته بأجسادٍ باردة في غياب دفء العاطفة. توهم نفسَك أنّ الماديّات كافية، وتفرض على أطفالك أوهاماً أقنعتَ نفسك بها طول حياتك. ولا ذنب لكَ إن باتت الحياة في هذه البلاد مقتصرة على ضرورات العيش، فلا مكان لغايات نبيلة أو طموحات، لأنّ الحياة الحقيقيّة التي تليق بالإنسان، صارت مَنسية. ولأنّك لم تُدرك ذلك إلا متأخراً، أعدتَ خطأ مَن أنجبوك، بإنجاب مَن أنجبتَهم، فكنت مُذنباً مديناً لهم بألف اعتذار لا يسوغه إلا اعترافك بالخطأ، والاعتراف -كما تعلم- فضيلة.
لم تصلح هذه الأوطان يوماً للعيش، فحتّى كلاب الشّارع لم تسلم من الأذيّةِ والملاحقة والتعذيب.

كيف تدّعي أنّ بلادَك وإن جارت عزيزة؟ هي لم تُذِقكَ جَوْرَها فقط، بل جعلت منكَ عِبرةً و “كبش فداء” في كلّ حرب ونزاع، في كلّ لعبةٍ شرِبَ نخبَها الأسياد والقادة والقوّادون، بينما أنتَ تُصارعُ على نافذة المخبَز الضيّقة، تنتظر رغيفاً يرفعون سعرَه ويفتعلون به الأزمات، لكي يصبح تحصيلهُ حُلماً وعبئاً جديداً يُضاف إلى حياتك البائسة المتخمةِ بالهموم.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد